قيل أن الفتنة طريق مظلم، وهي كذلك. وهو أيضاً طريق مليء بالمصائب والأهوال. من معضلات الفتن أن المنخرطين فيها يظنون أنهم ينتصرون لحق أو يردون ظلماً أو يصححون باطلاً وهم لا يدركون أنهم يفتحون بوابات على جرف هارٍ لا مكان فيه لحقوق أو عدل أو منطق.
وهناك معضلة أكبر، فالبيئة التي تنمو فيها الفتنة تفتقر إلى العقل والشجاعة والصراحة اللازمة لتحديد أسبابها وتجنبها فضلاً عن معالجتها. للأسف فإن هذا هو حالنا اليوم. كل ما قيل وما تردد ما هو إلا تكرار لنفس الأفكار والعبارات والتحليلات التي يشعر الناس أنها لابد أن تقال حين تحل الفتن بمصائبها. الاستنكار والحزن والغضب، هو بالطبع في محله. أما محاولة فهم أسباب الفتنة وتحليلها للوصول إلى جذورها، فهي تائهة في غياهب الوعي المصري المرتهن إما لعاطفة ساذجة أو أجندات ماكرة.
لا نجرؤ كعادتنا نحن المصريون إلا أن نردد نفس الشعارات والإكليشيهات ونوجه نفس الاتهامات دون التأمل فيما جد من ظواهر غريبة علينا تفاجئنا وتعكر علينا محاولاتنا البائسة للتعايش مع ظروفنا الصعبة وتفسد محاولاتنا اليائسة لنتكيف مع أوضاعنا المقلوبة.
قبل المتابعة أؤكد ما هو غني عن التأكيد وهو الرفض التام للعنف والاعتداء على الأبرياء وترويع الآمنين وسفك الدماء. أتوقع أن ما سأكتبه لن يروق للكثير من القراء لكن لا يجب أن تكون الكلمة أداة لاكتساب القبول أو ركوب الموجة. وسأختصر بقدر الإمكان لأن المناخ لا يسمح بالاستفاضة في حديث لا يتقبله الناس، ولو أن هذا المناخ هو أحد أسباب ما نحن فيه، لكن كسر حاجز الخطاب المقبول للمزاج العام يحتاج إلى بطولة لست أمتلكها. ولأنني لست بطلاً أؤكد مرة أخرى أن تحليلي التالي لا ينفي رفضي لهذه الأعمال وإنما هو محاولة لفهم واقعي لأسبابها والتحذير من تداعيات أسوأ أسأل الله ألا تحدث.
أستهل الموضوع بطرح التساؤل التالي الذي قرأته في أحد المنتديات، وهو تساؤل هام وفي محله:
« كيف هان علي القاتل أن يرى أمامه أرواحًا تُزهَق ونفوسًا تقتل بلا جريرة اقترفوها أو اثم ارتكبوه.»
والإجابة للأسف بسيطة وصادمة ومفجعة في آن واحد. فذلك الشخص هانت عليه روحه هو قبل أن تهون عليه هذه الأرواح. هو لم يشاهد أرواحاً تُزهق ولا نفوساً تُقتل، فقد كان هو أول من قتل وزهقت نفسه قبل غيره ومات هو قبل أن يرى حصاد صنيعته المر.
وهنا لابد من التوقف بعيداً عن تلقيف العبارات وتلقفها والوصول إلى نتائج متسرعة تريح نفوسنا إن كان يمكن أن تستريح بنظريات دامغة عن استحالة أن يكون هذا إلا فعل اليهود أو الأمريكان أو وصف هذا العمل بأنه عمل الجبناء إلى آخر النظريات المكررة التي نتداولها كأنها حقائق كونية، والتي توفر علينا التنقيب بعمق عن الأسباب التي قد تقض مضاجعنا أو ربما التي لو أقررنا بها سنقف أمامها نلعن عجزنا عن معالجتها.
لابد أن نعترف بشيء، فمثل هذه العمليات الانتحارية يمكن أن توصف بأنها شنيعة أو دموية أو إرهابية إلى آخر ما يمكن من أوصاف، لكن ليس من الصحيح وصفها بالجبن رغم كثرة من يستخدمون هذا الوصف. هذا ليس دفاعاً لكنه ضبط للمفاهيم.
ولابد كذلك أن نفيق إلى حقيقة مرة، وهي أن العملاء المأجورين لا يقتلون أنفسهم من أجل أهداف محرضيهم. فأياً كان من قام بهذا العمل، وبغض النظر عمن جنده أو حرضه، لابد أنه كان مدفوعاً بوازع قوي من داخله أوصله إلى درجة اليقين بأنه مقدم على الشهادة. هذه حقيقة قد تكون صادمة للغاية، لكن إنكارها يفسد أي تحليل موضوعي لما نحن بصدده. ونحن بصدد أمر جد خطير.
لا ننسى كذلك أن العملية الانتحارية لها خاصية فريدة. هي وسيلة يلجأ إليها من يظن أنه يمثل طرفاً سُلِبَت حقوقه في مواجهة مع قوىً يراها عاتية لا قبل له بمواجهتها إلا بأن يجعل من نفسه قذيفة. هذه هي ظاهرة العمليات الانتحارية في أي مكان اليوم سواءً كان من يقوم بها محقاً أو مخطئاً في رؤيته. وهي حتى الآن لم تكن ظاهرة مصرية. إذن مرة أخرى نحن بصدد تحول خطير.
بالنظر إلى هذه العوامل يجب ألا نجعل عواطفنا أو أمانينا تصرف أنظارناعن الاحتمال الأكبر وهو أن من قام بهذا العمل مصري. ذلك بغض النظر عن محرضيه ومن تواطأ معه، الذين قد يكونون من الخارج أو الداخل. وإن كانوا من الخارج، فمن المستبعد في رأيي أن تكون أياد إسرائيلية أو أمريكية، فهذه أطراف لا مصلحة لها إلا في تعزيز استقرار النظام الحالي في مصر لا زعزعته. فالأرجح إما أن تكون جهة التحريض والإسناد محلية أو يكون تنظيم القاعدة، لا يهم. المهم هو فهم الأوضاع التي ربما تكون أخرجت من بين المصريين انتحارياً يظن أنه سينال الشهادة بتفجير نفسه بجوار الكنيسة حتى يقع أكبر عدد ممكن من الضحايا، وبالطبع يظن أيضاً أنه حين يموت لن تكون هذه الدماء في عنقه.
أرجو أن أكون قد أوضحت خطورة الأمر، ومما يزيد من جسامته أن عدم رؤيتنا لهذه الصورة قد يكون دليلاً على ضعف إحاطتنا بالأوضاع المحيطة بنا، وبالتحديد عدم إدراكنا لما قد يكون محتبساً في نفوس الجموع من شباب الأغلبية الصامتة من غضب وكبت ناتج عن تراكم وتفاقم فتن سابقة تناقش حولها الناس فترة ثم ظن الناس أن شباب الأغلبية الصامتة قد نسيها، لكننا خوفاً من مواجهة واقعنا لا نريد أن نربط ما نوقش سابقاً بما حدث مؤخراً! وذلك على الرغم من تحذير بعض العقلاء وقت الفتن السابقة من أن استمرار هذه الأوضاع قد يؤدي إلى كوارث ونتائج لا يحمد عقباها. فهل من العقل إذا ما وقعت الكوارث أن نتجاهل ما جرى في الماضي القريب .. وإذا تجاهلناه فكيف نوقف الفتنة؟
هذه مكاشفة ودعوة للتنقيب بداخلنا بالقدر الذي يمكن تحمله في الأجواء الراهنة.
«اللهم أرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه»
هناك 5 تعليقات:
تصحيح بسيط هو أنها لم تكن عملية انتحارية بل قنبلة تحت السيارة التى غادرها المجرمون قبل التفجير حسب أقوال الشهود.
اللهم أرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه
أخى علاء جزاك الله خير لفتح هذا الموضوع. إسمح لى بتعليق على الموضوع.
أنا أتفق معك مئة فى المئة فى أن هناك غضب وكبت محتبساً في نفوس جموع من شباب الأغلبية الصامتة ناتج عن تراكم وتفاقم فتن سابقة و أن استمرار هذه الأوضاع قد يؤدي إلى كوارث ونتائج لا يحمد عقباها. وأنه يجب معالجة هذة الامور بالانصاف و ليس مجاملة أو إذعان لضغوط خارجية.
فيما يلى أناقش فقط إمكانية تورط أياد إسرائيلية أو أمريكية فى هذه الفتنه و ما سبقها من أحداث و فتن.
لقد إستند التحليل فى إستبعد أن تكون هناك أياد إسرائيلية أو أمريكية على الملاحظة "أن العملاء المأجورين لا يقتلون أنفسهم من أجل أهداف محرضيهم."
فى حين أننى أتفق مع هذه الملاحظة صحيحة ولكن لايجب أن نغفل عن السناريوهات الاخرى. فعمل المخابرات اصبح يأخذ أشكالاً أكثر تعقيداً خاصة مع تقدم التكنولوجي و التحكم عن بعد.
أضرب لك مثالاً بعملية الموساد لقتل فلسطينى معروف بأنة مهندس صناعة المتفجرات منذ حوالى 15 سنة حيث إستطاعات المخابرات أن توصل اليه موبيل مفخخ تم تفجيره عن بعد.
و تلجأ المخابرات الى تمويه حرفى يصعب على المتخصصين وليس فقط العامة الربط بين أطراف العملية عن طريق تسخير إمكانياتهم الضخمة فى عملية يمكن أن تعتبر بسيطة.
أسوق إليك حادثة قتل محمود المبحوح التى ستخدم فيها الموساد 18 عميل على الاقل.
نرجع الى موضوع تفجير الاسكندرية, فلا نستطيع أن نتجاهل التمويه المقصود لتظهر كعملية إنتحارية بدلاً من تفجير سيارة أو عبوة ناسفة تركت وسط الزحام.فأحد الاحتمالات هو أن يغرر بالسزج والجهال (وكثيرٌ ماهم) للذهاب لزرع عبوة متفجرة على أساس أن يفجرها من بعد. ثم تحصل الخيانة ويقوم عميل أخر بتفجيرها و هى لاتزال فى حوزته. فيظهر الحادث على أنه تفجير إنتحارى و ليس عملية جبانة نفذها جهاز محابرات خبيث. لاتنسى أن عملية التفجير حدثت فى الشارع قبل أن يدخل الى الكنيسة. فى حيث أنه لو كان إنتحارياُو يريد أن يوقع عددأكبر من القتلى لكان دخل الى المبنى ووقف وسط الزحام.
نقطة أخرى وهى أن العمليات الانتحارية غالباً ماتقف وراءها جماعات منظمة (وليست عملاً فردياً) الى حد ما و تسارع هذه الجماعات الى إعلان مسؤليتها عن العملية. أما عمليات المخابرات لايعلن مسؤليتها أحد. يمكن ملاحظة هذا من الاحداث المأساوية فى العراق و بعض العمليات الساذجة للمخابرات التى تنفذ فى أروبا و أمريكا والتى تتضح للعامة أنها عمليات مدبرة. أتذكر حادثة تفجير (على ماأطن كانت فى أمريكا) حيث إدعى الاعلام أن شاباً عربياً نفذ تفجيراً انتحارياً بسيارته. ألى هنا الامر يظهر طبيعى ولكن عندما تعلم أن الشاب أتي ليدرس الدكتوراه (أو الطب) وأنه متزوج ومعه طفلاً صغيراً و ليس منتمى لجماعة. هنا يظهر التناقض فى القصة وتتسائل لربما زرع بعضهم المتفجرات فى سيارت هذا المسكين. وتنته القصة هنا حيث أن الشاب مات و لا أحد يصدق زوجته الت تؤكد أن الفقيد ليس له توجه سياسى ولاينتمى لاى جماعة.
أذكر أن أحد المنظمات فى العراق هددت بإستهداف كنائس مصر. ولكنهم لم يعلنوا مسؤليتهم عن الحادث. ولانستطيع أن نقول أنهم خائفين حيث أنهم لم يخافوا من أن يعلنوا تهديدهم. فلو كانو هم المسؤلين لاعلنوها بفخر.
يجب أن نتذكر أن مصر مستهدفة و بذل الغالى و الرخيص فى إيقاع الفتنة فى مصر له وجاهته.
أخي عبد العظيم،
شكراً على الإضافة. بالطبع التحقيق لم ينته بعد والاحتمالات ما زالت مفتوحة. ولو كانت قنبلة تحت السيارة كما ذكرت يصبح تصحيحك تصحيحاً هاماً وليس بسيطاً فحسب. حتى الآن أقوال الشهود مضطربة ومتضاربة، كما أن القرائن تشير إلى أن الأضرار التي لحقت بالسيارة لا تدل على مراكز انفجار بها. المرجح حتى الآن هو أن تكون العملية انتحارية، لكن ذلك لم يُحسم بعد. والله أعلم.
أخي إبراهيم،
شكراً على التعليق. لم أذكر أن العملاء المأجورين لا يضحون بحياتهم من أجل محرضيهم كدليل على استبعاد الدور الإسرائيلي أو الأمريكي في هذه العملية. إنما ذكرت ذلك لأبين أن من قام بها -إن كانت العملية انتحارية- سيكون قد فعل ذلك بدافع من داخله هو وباقتناع إلى حد اليقين بغض النظر عن خطئه.
أما ما استندت عليه لاستبعاد الدور الإسرائيلي، فإذا راجعت مقالي ستجد أنني لا أرى مصلحة لإسرائيل أو أمريكا في زعزعة استقرار النظام الحالي، بل على العكس، فإن زعزعته قد يأتي لها برياح لا تشتهيها على الإطلاق. وعلى عكس ما يحب أكثرية الناس أن يعتقدوا، فإني لا أعتقد أن مصر بوضعها الحالي مستهدفة على الإطلاق وحتى إشعار آخر. أكثر الناس ما زالوا يفكرون بنظريات زمن كان لمصر فيه إرادتها السياسية المستقلة.
في النهاية أرجح أن تكون أسباب هذا الحدث داخلية بالدرجة الأولى، مما يعني أن تجاهلها أو تشتيت أنظارنا إلى جهات أخرى يعني أن الأمور مرشحة للمزيد، أتمنى أن أكون مخطئاً ونسأل الله السلامة.
تحليل ذكى ...ودوما أسأل نفسى سؤالا
هب أن التحقيقات أثبتت أن الفاعل نصرانى مثلا مثلا فهل تجرؤ جهات التحقيق أن تعلن ذلك ؟
سيد يوسف
إرسال تعليق