كتبت في يونيو ٢٠٠٧
الحمدلله .. كنت أتابع بإعجاب حواراً عن المواطنة في بلدي، وتعجبت حين تحول المسار، فدار حول التدخين الحوار. لكن سرعان ما زال اللبس بالفهم وذهب العجَب بالوعي. أدركت وإن تأخر الإدراك، فقد عدت إلى الوطن لتوي من بعد اغتراب، أدركت أن السيجارة في موطني هي الدليل على المواطنة والبرهان.
وإن تحيرت فانظر معي .. ألا يبذل المواطن ماله وقوت يومه من أجل السيجارة .. هي المحظية عنده والأَوْلىَ، فسَل عنها الأهل يقلن ضرة. يؤثرها على الوالد والولد، يحرمهما إن عاز ولا يغادرها. هو يفدي السيجارة ولو بالقلب والنَفْس والنَفَس، يقبل على موته البطئ ولا يهجر لها لَهَبا. لابد إذن لهذه السيجارة من مضمون نالت به الحظوة، ومكنون جعلها للوفاء مستحقة. لفافة التبغ في بلدي من رموز الوطن. تلك المبرومة عندنا هي عَلَم الولاء لمن اختنق بغبارها، وهي نار الفداء التي تأكل قربانها.
وإن تعجبت فتأمل معي .. فهذا المواطن يصادق من يصادق السيجارة ويجالسه ويسامره ليعزِف معه على مزامير الصدر محشرِجاً .. ثم يعزُف نفس الكِنانيُ عن صاحبه إن هو أعرض عن فَم حبيبته المُفلتَرِ متعفِفا. فأي عجب ممن استأنس بصحبة ذي الدَخنِ، واستوجس ريبة من عفيف غير مدخنٍ؟ أي أُنسٍ وجد في خلوف فاه إذا انفرج، أطل منه أصفرٌ مصفوف، وقد ران عليه من ألوان القطران صنوف، من وحشتها تغار الكهوف، وودت آسِنُ البِرَك لو أطبقَه؟
لا عجب .. هي ألفة عِرقَين تجرعا النيكوتين، فاتخذ المُتَجَرَّعُ من مجاري المتجرِعَِين متنزها، يؤاخي بين مستنشقٍ ومستحبسٍ، فكل مدمن في عرف الإدمان مواطنٌ .. لو أن التبغ بمجرى القاني مستوطنٌ.
ومن حرص المواطن في بلدي على الخير لأخيه المواطن ومن وافر المروءة، أبى إلا أن يتساوى في المواطنة مع المحرومين من لذات التبغ المرغوبة .. فهذا سائق الأجرة، ليشرك رديفه في دخان سيجارته ملأ الهواء من فيض فضله، فاستنشقه المسعود مجبوراً، فافترش الدخان صدراً كان من قبل معافاً مستوراً، وكأن الشاعر قال:
"وتعطلت لغةُ الكلام وخاطَبت .. رئتي بنفخَةِ الرَدىَ رئتاك".
وهذا جارٌ ما نسي جاره بظهر الغيب، فترك وراءه ملء فضاء المصعد طبقات من ضباب، يطبق بعضها على بعض، تدور عليها الدهور ولا تنقشع، فيا لحسن جيرته ويا لقلبه المتسع.
وهذا ذاهبٌ يسعى لحاجته إلى دائرة من الدوائر الرسمية، فما خرج إلا وقد تشبعت شعبه الهوائية برماد من سجائر شَعْبية، عطفاً من بكوات المكاتب القاعدين أو كرماً من إخوانه القائمين، فانصرف بنفحات وطنية، تثنيه عن سائر حوائجه مدةً .. لو بيده لكانت أبدية.
رفقاً بنا أيها المدخنون .. آثروا أنفسكم ولا عليكم. أجيرونا من مساواتكم فهي إلى الجور أقرب، فلا تعدلوا .. خذوا قسطنا إلى قسطكم وبكلا القسطين اهنئوا، فلا نريد شيئاً من فرط فضلكم ولا من رِيح عطفكم.
وختاماً فقد وجدت عزائي مؤخراً وسلواني في دكان العم عبد العزيز الخردواتي، متعه الله بعافيته، وحفظ أعداد العقلاء بدوام صحته .. وجدت لافتة على الزجاج بداخل دكانه تقول:
" ممنوع التدخين داخل المحل
اقتل نفسك بعيداً عنا. "والعم عبد العزيز لم يزل كما أذكره منذ الصبا، إلا من بعض تأثير السنين، هو مواطن فيما أعتقد، وبدون تدخين.
تأملات حول الناس وأحوالهم والوطن وثورته والأمة ومحنها في زمن صار فيه المنكر معروفاً والمعروف منكراً والكاذب مصدقاً والصادق مكذباً وأصبح يقال للرجل ما أعقله ما أظرفه وليس فيه مثقال ذرة من أمانة فبات الحليم حيرانا.
25 مايو 2011
سيجارة المواطنة !
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق