الحمد لله. بعد سنين الاستبداد والاستخفاف بالمصريين الطيبين استرد الشعب المصري وطنه وكرامته بفضل الله، وها هو يذهب غداً ليختبر الحرية التي انتزعها ويمارس حقه المسترد في اختيار مسار بلاده. يوم غد هو السبت ١٩ مارس، اليوم الذي يصوت فيه أبناء مصر في أول استفتاء نزيه لا تُعرف نتيجته مسبقاً عرفته البلاد منذ ٢٣ يوليو ١٩٥٣، في هذا اليوم سنختبر معاً صندوق الاقتراع الجديد الذي سيكون طيباً حلواً إن شاء الله بمذاق المشاركة الإيجابية والنزاهة والشفافية وحرية الرأي واحترام الرأي الآخر والرضا بنتيجة الاستفتاء.
لقد عقدت العزم على التصويت بنعم لعدة أسباب أذكر بعضها هنا. وقبل التحدث عن التعديلات علينا أن نعي أولاً أهدافها. فالتعديلات الدستورية ليست وسيلة لترقيع دستور ١٩٧١ كما يعتقد بعضنا، وإنما هي آليات تعمل معا كجسر ينقلنا إلى وضع جديد لتحقيق الأهداف التالية:
أولاً - نقل السلطة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى حكم مدني يقوم على أساس مجلس نيابي ورئيس جمهورية منتخبين انتخابا نزيهاً:
وبذلك تتحقق عدة مكاسب من أهمها انتهاء دور المجلس الأعلى للقوات المسلحة في الحكم، فمع تقديرنا جميعاً للدور العظيم الذي أدته القوات المسلحة في إنجاح ثورة الشعب والذي تقوم به الآن في إعادة بناء الدولة على أسس سليمة وضمان مكتسبات الثورة يجب ألا ننسى أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يمثل الآن سلطة مطلقة بكل معاني الكلمة. فلا يُتخذ أي قرار هام إلا بعد الرجوع إلي المجلس، والمراسيم التي يصدرها المجلس لها قوة القانون وإعلاناته الدستورية لها قوة الدستور، ولا توجد جهة رقابية على أعمال المجلس. الأمر يعتمد تماماً على حسن نوايا المجلس والتزامه بالشرعية المستمدة من ثورة الشعب. وتدل المؤشرات على أن التاريخ سيكرم هذا المجلس في سجل شرفاء الأمة. لكن التاريخ ينبهنا أيضاً إلى أن الحكم العسكري إذا طالت مدته في السلطة يتحول إلى حكم استبدادي قسري، والمجال لا يسمح هنا باستعراض العوامل التي تؤدي إلى ذلك، ومن يشأ فليستعرض سجل الثورات والحكومات العسكرية عبر التاريخ. ويعلم بعضنا أن الأمر لم يخلُ من تجاوزات لحقوق الإنسان من جانب بعض الجهات العسكرية في الفترة الماضية نحسب أنها لا تعبر عن سياسة المجلس الأعلى وإنما هي ثقافة قسرية موجودة في بعض مستويات القوات المسلحة، لا سيما الشرطة العسكرية. هذا والثورة ما زالت نشطة وفاعلة.
هناك من يقترح تشكيل مجلس رئاسي يتولى الحكم أثناء الفترة الانتقالية الحالية إذا تخوفنا من طول بقاء العسكريين في الحكم، والواقع أن انتقال السلطة من العسكريين إلى حكم مدني لا يتحقق إلا بقيام حكم مدني دستوري ممثل للشعب. ذلك أن المؤسسة العسكرية تتمسك بعقيدة سيادة الشعب وولائها له، وهي ترى نفسها الآن الممثلة الوحيدة له، فإذا تشكل مجلس رئاسي بمعرفة المؤسسة العسكرية، سيظل هذا المجلس تابعاً للمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي هو السلطة المطلقة التي ترى نفسها ممثلة للشعب، تماما مثل العلاقة بين مجلس الوزراء الحالي والمجلس الأعلى للقوات المسلحة. أما إذا تم انتخاب برلمان جديد يتولى المهام التشريعية والرقابية على أساس دستوري، وتم انتخاب رئيس جمهورية جديد يصبح هو القائد الأعلى للقوات المسلحة بموجب الدستور، فستعود القوات المسلحة لتصبح هي التابعة للرئيس الجديد وخاضعة للقوانين التي يسنها البرلمان المنتخب ورقابته. وقد صرح أحد أعضاء المجلس الأعلى في حديثه على العاشرة مساءً أنه عند انتقال الحكم إلى سلطة مدنية دستورية فإن القوات المسلحة ستخضع راضية لكل ما تقرره المؤسسات الدستورية.
من أهم فوائد تحقيق هذا الهدف أيضاً إنشاء نظام الحكم الجديد على أساس مؤسسات الدولة الطبيعية وسلطاتها الثلاثة وفقاً لخطة منهجية واضحة وفي مدة زمنية محدودة، مما يتيح للمجتمع بوجه عام والمجتمع المدني والشارع السياسي بوجه خاص الفرصة لممارسة الحياة السياسية على أسس سليمة ويتيح لبدء تطور العلاقات السياسية والمجتمعية الدائمة وكذلك الانتقال بسياستنا الخارجية من الحالة المرحلية المرهونة بالفترة الانتقالية إلى الحالة الاستراتيجية الدائمة. ومن الواضح أن الوضع السياسي الداخلي والدولي لا يحتمل أن نظل نعيش حالتنا الانتقالية هذه إلى أجل غير مسمى.
ثانياً - استبدال دستور ٧١ بالكامل وضرورة وضع دستور جديد:
لقد وجدت أن الآليات المتوفرة في التعديلات الدستورية تمثل أفضل مسار للوصول إلى هذا الهدف عند مقارنتها بغيرها من الاقتراحات المطروحة. بل لا أبالغ إن ذكرت أني وجدت مغالطات في بعض الاقتراحات البديلة يصل بعضها إلى التجن على التعديلات الدستورية، ربما بسبب عدم الفهم. وأوضح هنا أهم نقطة لإزالة الغموض، وهي أن المادة ١٨٩ مكرر من التعديلات تلزم الأعضاء المنتخبين من البرلمان الجديد بعد انتخابه بتشكيل هيئة تأسيسية من داخل وخارج البرلمان تكلَّف بوضع دستور دائم جديد، وهذه المادة تستدعي الفقرة الأخير من المادة ١٨٩ التي تلزم رئيس الجمهورية بعرض الدستور الجديد للاستفتاء العام بعد ١٥ يوماً من الانتهاء منه. ومن المغالطات التي تذكر أن إنفاذ المادة ١٨٩ مكرر يعتمد على موافقة رئيس الجمهورية بموجب المادة ١٨٩. وهذا غير صحيح، فالمادة ١٨٩ تعطي الحق لرئيس الجمهورية بعد موافقة جهات أخرى بطلب تعديل الدستور، لكنها لا تجعل موافقة رئيس الجمهورية شرطاً لهذا التعديل ولا تجعل هذا السبيل الوحيد لتغيير الدستور، أما المادة ١٨٩ مكرر فهي ملزمة وتحيل إلى الفقرة الأخيرة فقط من المادة ١٨٩ لتستخدم الآلية الموجودة فيها لطرح الدستور الجديد على الاستفتاء العام. وقد يسأل سائل، لماذا المادة ١٨٩ مكرر ولماذا لم يذكر الأمر بوضوح في مادة واحدة؟ والإجابة أن المادة ١٨٩ مكرر سيُعمل بها مرة واحدة كجسر من الوضع الانتقالي الحالي إلى الوضع الدستوري المستقر، أما المادة ١٨٩ الأصلية فهي أصل في الدستور.
لقد أحسنت لجنة التعديلات الدستورية حين جعلت تشكيل الهيئة التأسيسية مسؤولية برلمان ينتخبه الشعب عن طريق انتخابات نزيهة، بحيث تمثل الهيئة التأسيسية رغبات الشعب الحقيقية واتجاهاته المتنوعة الحقيقية وتعبر عن آمال الشعب وطموحاته بناءً على اختيار الشعب الممثل في نوابه. كما لا أتفق مع الذين يعترضون على إجراء الانتخابات في غضون ٤ إلى ٦ أشهر بدعوى خلاء الساحة من أي قوى مستعدة لخوض معركة انتخابية إلا الإخوان المسلمون وبقايا الحزب الوطني. ولا يخفى على أحد ما في هذا التوصيف من تخوين لتيار وطني ضحى بالكثير من أجل الوطن قبل الثورة وأثنائها وكان عنصراً مهما في إنجاحها، بل من المعروف أنه لولا شباب الإخوان لكان اعتصام التحرير أجهض ليلة الأربعاء الدامي الشهيرة. ومعروف أيضاً الخصومة بين الإخوان وبين النظام السابق وعلى رأسه الحزب الوطني ورموزه، لذلك فمحاولة وضع الإخوان والحزب الوطني في سلة واحدة هي محاولة تخوين تفتقر إلى الأمانة والإخلاص. وأضيف أني أطالب بحل الحزب الوطني وإقصاء أعضاءه من الحياة السياسية لمدة فترتين برلمانيتين، ولو أن خوضهم أي انتخابات أمر محكوم عليه بالفشل على أي حال.
وقد بين من هم أفضل في الحجة والتعبير مني ضعف حجة عدم الاستعداد لخوض الانتخابات، ويمكن للقارئ مراجعة مقالات الأستاذ فهمي هويدي الأخيرة في هذه الصدد وكذلك مدونة الكاتبة نوارة نجم. لكن أتسائل أين كانت القوى السياسية التي تشكو الآن من ضعف وجودها في الساحة حين كانت القوى الأخرى تكافح في وجه بطش وقمع النظام السابق، والإجابة أن هناك قوىً كانت موجودة وتكافح أيضاً مثل حركة كفاية وشباب ٦ أبريل وغيرها، لكنها لم تحقق التواجد الشعبي المرجو وإنما ظلت قوى نخبوية ربما بسبب تركيبتها وطبعها، ولا ضير في ذلك فقد أدت بعض هذه القوى وخاصة كفاية دوراً جليلاً في كسر الخطوط الحمراء لكني أستبعد أن تحقق الآن ما خفقت في تحقيقه عندئذ، والسبب أن هذه الحركات لا تمثل تياراً أو فكراً معيناً، وإنما تجمع من تيارات فكرية مختلفة اجتمعت على محاربة نظام الحكم الفاسد، أما الآن فلا مجال لتوحد هذه التيارات الشتة في حزب يمثلها، حيث أن الحزب السياسي لابد وأن يعبر عن هوية وفكر واضح. أما عن الأحزاب التي كانت رسمية فهذه أحوالها معروفة. تبقى بعض الأحزاب التي لم يعترف بها في السابق مثل حزب الوسط وحزب الكرامة (حمدين صباحي) وحزب العمل المجمد (مجدي حسين)، وهذه أحزاب لها فكرها ومنها من له تواجده في الشارع، ومما أرى فإن هذه الأحزاب تؤيد التعديلات الدستورية.
ثالثاً – الإسراع بمزاولة حقوقنا المكتسبة:
وهذا من أهم الأسباب التي تدفعني للتصويت بنعم. التعديلات تقيم لنا جسراً بمنهج واضح للوصول إلى غايتنا. ولمن يشكو من كثرة الاستفتاءات والانتخابات التي سنخوضها، أقول هو المطلوب لنعبر الجسر، فإذا التزمنا باحترام بعضنا البعض وحسن الظن في الآخر وممارسة الحوار والجدال الحر المتحضر واحترام نتائج صناديق الاقتراع، فسنسجل صفحات رائعة في تاريخ بلادنا وستذكرنا الأجيال القادمة بخير إن شاء الله.
نسأل الله أن يرنا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ويرنا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ويجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ويوفقنا إلى ما يرضاه وصالح أمورنا. والله من وراء كل قصد.
هناك 4 تعليقات:
أجمع معظم العقلاء على "نعم" للتعديلات الدستورية
تجمع أصحاب المصالح الخاصة و إمعات الاعلام و الفن و الكورة الأقلية المسيحية للاختبار خلف حرفين هما الألف و اللام. تحياتي
أخي عبد العظيم .. تماماً كما قلت .. لقد أجمع العقلاء الذين قالوا نعم على "نعم". كما أجمع العقلاء الذين قالو لا على "لا".
أخي العزيز علاء بالإسكندرية،
تجمع ملايين المصريين من جميع الفئات والاتجاهات ليمارسوا حقهم ويدلوا بصوتهم بحرية لأول مرة منذ 60 عاماً. كان يوماً رائعاً بكل المقاييس ولله الحمد والمنة.
إرسال تعليق