بين صاحبنا والنعاس كرٌّ وفرّ .. يغلب النعاسَ تارة وتارة يغالبه. إذا أمضى الليل ينجز عمله ويخفف حمله كانت له الكرّة. ثم تكون للنعاس بعد الفجر عليه كرة .. إذ كلما حاول صاحبنا أن يكمل تسبيحةً قبل شروق الشمس تأخذه سِنةٌ فتتلعثم شفتاه بالذكر.. وتظل تلك وتيرته حتى يترك الأذكارَ.. تحرُّفاً لقتالٍ فلا تظنُّه فرارا.
يغدو صاحبنا إلى ملتجأٍ يحتمي فيه بيقظتَه ..
لِهواء البحر وبرودة رذاذه سطوة ينحسر أمامها الأعداء، فتخلو الساحة لصاحبنا ويتم بفضل الله الأوراد.. ويخسر النعاس الكرّة.
كانت عليه أعباءً كثيرة في يومه هذا توجب عليه أن يعود ليختطف قسطاً من الراحة يسيرا، يستقبل به ما قُدِّر من جولات قادمة، فحربه لا هوادة فيها ولا مهادنة.
لكنّ عزيمته لم تقوَ على ترك الموج يتلاطم على الشاطئ والسحاب يتبعثر في السَمَا، وهواء الفجر يُجلي الصخر والنفس من أدران يوم مضى. ما بين إشراقٍ لم يزل بعد يطل من وراء الأفق على استحياءٍ من خلفه، وأضواء الساحلِ تتلألأ في ليلٍ لم يبرح بعد غرب المدينة من قِبَله، جلس على حواف الصخر وسرح في إقبال الأمواج وإدبارها، متسابقة تارة وتارة متعانقة.
انصرف بصرُه تجاه ساحل المدينة أمامه فتذكر غيبته الطويلة .. ”أحقاً عُدت .. أهذي مدينة طفولتي وذاك شاطئها.. أأناذا هاهنا ناظرٌ بحقٍ إليها؟ أحمد الله على العودِ فالعود حقاً أحمدُ“.
غاب في أمواج البحر وأفُقِ مدينته حتى جادَت سماها بمطرٍ نزل عليه بسَكينة وسَكَن، وتحركت بين جنبيه مشاعر ندية كانت خاملةً غمرت عينيه بماءٍ عذب، فاكتمل لهذا الصبح نَداهُ وفاض الساحل بنور الفلق..
وتنبَّه فتذكر ما عليه أن ينجز قبل حلول الأعياد.. فنهض.
. . .
في الطريق من الساحل إلى البيت رأى توابيتَ قائمةً على الرصيف على جانب أحد المتاجر المغلقة. لم يعبأ بما رأى ولم يلق لها بالا. لا نُسيء الظن بصاحبنا، فما عهدناه ببليد الحِسِّ بل لَيِّنَ الجَنبِ إنسانا.
لقد عرِف صاحبات الجثامين المتواريات في تلك التوابيت، وقد كان يرى أخواتٍ لهن بالنهار في الذهاب والمجيء بداخل المتجر، خاويات القلب، كأنهن خُشُب مسندة، مائلات مميلات، تتناولهن أيدي الزبائن فلا يتمنعن وتأخذ برقابهن فلا يبتعدن وتلعب على أوتارهن فيطلقن أصواتهن في امتثال، يخفضن تارة باستخفاء ويرفعن تارة بصخب.
كان محل القيثارات مغلقاً كعادته في تلك الساعة المبكرة، وعلى غير العادة كانت بعض بضائعه تنتظر على الرصيف وبجوارها رجل نحيل معها ينتظر، تكاد تخُطُّ هيئته وشَعره وملبسه لافتةً تهتف ”موسيقارٌ أنا!“.
لما رأى العازف صاحبنا سائراً ناحيته، قرأ في وفرة لحيته ما أغناه عن تعارفٍ بسؤال وخبر. أخذ ينقر على أحد التوابيت وهو يتطلع تلقاء القادم يوشك أن يدركَه، ينقُر ويرقُبُ كالذي يتحسس بالرأس ”بطحةً“ ليس يدري عسى أن تكون بائنة.
بمهارة الجوارح ترَيَّث حتى إذا دَنَت الفريسة حيث لا مفر ولا مهرب، رمى بسهمٍ ماضٍ لا يحيد ولا يخطئ: ”الموسيقى بتأدِّي دور مُهِم في الحياة !“ ..
قالها بتؤدةِ الواعظين وثبات العارفين.
أُخِذ صاحبنا على غِرَّة، لكن صدرَه لم تُغيِّرَ البغتةُ صفاهُ، ولا أذهبَت سَكينةً كان تحرّاها بين فجرٍ وضُحاهُ. ولا هو استشعر شَنَئاناً ولا أحَسَّ مِن ثَمّ عُدوانا.
دون أن يتوقف عن السير ردّ بلطيفةٍ لا تصيب ولا تقتل، إنما تعيد ترتيب تضاريس النزال بقَدَر: ”صحيح .. بس دور كويس ولا وِحِش .. هو دا المُهِمّ!“ ..
لكن العازف البارع كان بإعداد نباله منشغِلا، فما أفسح في صدرهِ لهذا الرد مُتسَعا، بل كان للنزال الأسبقَ، وكانت رميته الأسرعَ لمّا باغَت محاورَه، ساخراً كان أو كان مداعبَه: ”الإسلام هو الحل!“
فيا للعَجَب .. جهولٌ وصَدَق.
___
هناك تعليقان (2):
مرحباً أخ علاء ..
هذا النص منشور في منتدى الساخر ،و من هناك عبرتُ إليه .
سيدي منذ اللفتة الأولى تراءى لي أن نصاً جيداً سيخرق الطوق المضروب على النصوص الرقميّة و خاصة ً بما يتعلق بالقصة القصيرة ، و لا يخفى عليك القصة القصيرة جداً و الخشية من الأقصوصة القصيرة جداً في المستقبل .
زبدة الجديث .. لك أسلوب يقارب أسلوب كتّاب القصة الحقيقيين في مِصر و العهد الذهبي المتمثّل بنجيب محفوظ و يوسف إدريس و غيرهم ، و إن كانت اللغة المسترسلة الزاخرة هي لغة محفوظ ..
بالنسبة لي كقصة لم تأتِ بمعنى واضح ، غير أنها برهّنتْ عن قدرتك على الكتابة القصصيّة ( أي السرد ) ..
لا أستطيع أن أقول لك أكثر من هذا لأن القصة توارت في غياهب بعيدة و خاصة ً بعد الإلتقاء بالموسيقار الجوّال كما اتضح لي .
تقديري .
أهلاً أخي معتصم،
شكراً لك أخي على الاهتمام والتعقيب. أصارحك القول أني لم أحاول أن أكتب قصة ولكني أحيانا أكتب عن أشياء مرت بي إذا كان بها ما يمكنني من نقل أفكار أو عبر معينة إلى القارئ بدلاً من الكتابة عن هذه المعاني مباشرة. وهذا هو ما فعلت هنا. فذلك سرد لأمور مرت بي بالفعل في صباح أحد الأيام لكنها استوقفتني وشغلت ذهني بعد ذلك ووجدت فيها ما يستحق التأمل والمشاركة. ولذا كانت ملاحظتك في محلها حين لم تجد معالم لقصة كاملة من عقدة وحبكة وختام، مما أعترف لك أني لا أجيده ولم أهم به.
فكل ما جاء في هذا السرد وقع في ذلك الصباح، بما في ذلك الحوار القصير الذي بدأه ونهاه ذلك العازف والذي أوردته بألفاظه. لكنه فقط لم يمر عليّ هكذا وإنما انشغل به فكري: ماذا كان يدور في ذهن ذلك الرجل؟ لماذا بادرني بهذا القول كأن وجودي في هذا الوقت في حد ذاته كان يمثل إصبعاً يشير إلى شيء ما به يود أن يبرره إلخ؟ ثم هل من معان أبعد من ذلك يمكن إسقاطها على هذه التجربة البسيطة وهكذا. وبالمناسبة، لا أعتقد أنه كان عازفاً متجولاً، إنما كان يبدو أنه عازف جاء يعيد آلات استأجرها من محل الأدوات الموسيقية الذي أشرت إليه وكان ينتظر المحل أن يُفتح بعد أن انتهى من استخدام الآلات خلال الليل -هو وزملاء له آخرين في فرقة ما على الأغلب.
وحين نشرت هذا السرد في بعض المنتديات لم أكن أفكر في نشره كقصة، لذا لم أنشره في قاعات الأدب. فهذا الموضوع الذي وجدته أنت على الساخر، كنت نشرته في قسم الرصيف ولكن يبدو أن المشرفين الذي قرأوه اختاروا أن يضعوه في قسم المشهد مشكورين. فهكذا أخي الكريم، أصبت حين لم تجد هنا من مقومات القصة ما تبحث عنه، وإنما هو سرد وتأملات أحببت أن أشاركها مع قرائي. وهكذا لا أجدني مستحق لمقام الروائيين والأدباء الذين ذكرتهم، إلا أنه أسعدني مرورك وتواصلك.
فشكراً لك أخي معتصم.
إرسال تعليق