ما أكثر فراشات العُثة، هي في كل مكان مبثوثة وكل حينٍ موجودة. لا هو أنيقٌ رسمُها ولاهي زاهيةٌ ألوانُها. هي إن تراوحَت فبين صفراء شاحبة إلى بُنيةٍ قاتمة، وإن تمَيزَت بشيءٍ فبأنها عادية شائعة. كَمْ إذن يكثر انتشارُها دون ما تستدعي منا انتباها. وإلا فمتى ناديت على طفلك أن احضَر سريعاً لقد رأيت واحدة .. أو متى رفعت صغيرتك على ساعدك لتريها عُثة في الركن قابعة؟ ومتى تركت ما تفعله من أجل إحداها .. اللهم إلا لتطاردها خارج غرفة نومك ليلاً، أو لتعاود هَشَّها وقد ضِقتَ بعِشقِها لشاشة تلفازك ذَرعاً.
لكن كيف تراك لو أن التي حطت بالشاشة كانت فراشة مَلَكية جذابة برسمها المنمق وألوانها الخلابة؟ ألا تراك تومئ إلى أهلك أن ”ششش! اتركيها“، وتشير لابنتك هامساً: ”على التلفاز هناك .. أرأيتيها؟“ وتلتف الأسرة بلُطفٍ ورقَّة تراقب الزائرة البديعة وقد جاءت بيتك بنفحة من جمال الطبيعة. وإذ أنت في ذلك لا تعبأ ببرنامج كنت تتابعه إن فات ولا تنشغل بطرق الباب، يفيضُ فضولُ طفلك الصغير ويداهمكم بلهفة، فتبادره: ”مَهلك مَهلا .. خرجت فراشتُك من الشرفة“.
وقد تظل الفراشة بعدها نُدرةً تروونها إذا جاء الضيوف، وربما طُرفةً تداعب بها يوماً أحفاداً حولك يتسامرون: ”أتدري يا ولدُ أن أباك، هو الذي أخرج الفراشة من الشباك“. ولست أرى مكاناً بين نوادر تلك الأسرة، لقصةٍ واحدةٍ من نصيب العُثة!
ما هو إذن سر إعجابنا بالفراشة وإعراضنا عن العثة كما يعبر عنه هذا السرد المفترض؟ الجمال والرشاقة والأناقة هي بالطبع الأسباب. وكذلك فلا تُحسَب الكَثرة ولا الشيوع في صالح العُثث التي نراها في اليوم مراراً فلا تعلق بالخيال ولا تصير مادة سَمَر أو صورة في الأذهان.
أما الفراشات الجميلة، فإنها نادرة لا تدخل في العادة منازلنا ولا تنجذب في الظلام إلى المصابيح في بيوتنا، فالفراشة من كائنات الهواء الطلق ونور النهار، تطوف تحت ضياء الشمس من زهرة إلى زهرة تطلب رحيقها. حتى أعمار الفراشات تقاس في الغالب بالأيام والأسابيع، فما الفراشة بحُسِنها إلا حلقة قصيرة من أطوار تبدأ بالبيض فاليرقات فالعذارى في الشرانق إلى أن تخرج فراشات ذات بهجة، فلا تلبث إلا قليلاً ترتشف الرحيق وتُزَوِّج الزهور وتتراقص في الفضاء متغازلة، حتى إذا تزاوجت هي ووضعت بذرها مرة أو بِضعُ مرة أدت ما عليها وقضت نحبها.
وهكذا فإن كل جميل يعجبنا ويزين حياتنا ويحتل مكانة في خيالنا وأدبنا وفنوننا هو قليل عزيز يخرجنا عن المألوف ولو شيئاً قليلاً ويكسر رتابة المعتاد ولو قدراً يسيراً، وربما لو كان كثير العدد شائع التواجد لما كان له هذا التأثير ولما نال ما ينال من قيمة ومكانة وإعجاب.
لكن هل تراك تساءلت أين نحن البشر في هذا الميزان .. وهل نجرؤ على إسقاط هذا المقياس علينا بني الإنسان؟
للحديث بقية إن شاء الله ..
الفراشة - ويكيبديا، الموسوعة الحرة
العثة - ويكيبديا، الموسوع الحرة