عندما بلغ المصريون درجة معينة من الوعي الجمعي، كسروا الحواجز وانطلقوا ثائرين على جلاديهم وأنهوا دولة القهر والذل والنهب. ثم أطلقت الثورة نفسها ثورة أخرى لا تقل عنها تأثيراً ولا أهمية، وهي ثورة الوعي. لقد نما وعي المصريين في السنة الواحدة التي تلت 25 يناير بسرعة أذهلت العقول.
لكن وعي المصريين اليوم في خطر، ومعنى ذلك أن الوطن قد يصبح في خطر، لأنه لو عاد الوعي وانحسر، أصبح المصريون مرة أخرى عرضة لأن يستخف بهم المستخفون ويسحرهم السحرة ويسترهبهم الطغاة ويستعبدهم المستبدون. فمن غاب وعيه فقد إرادته.
ولتغييب الوعي سببان. إما بسبب نظام حكم يضلل الناس بإعلامه ويكبل ألسنتهم بسطوته ويفسد نفوسهم بمكره؛ وإما بسبب الناس أنفسهم، وذلك حين تُغَلِّب العاطفة على عقولها والحماسة على رشدها والعصبية على حلمها فتصير أسيرة ولاء ضل الطريق، أو شعارات تستعيض بها عن إشغال العقل بالبحث في المضامين، أو رموز تذكرهم بالبطولات الخالية يبنون في ظلها قصور الرمال وينسجون حولها الأحلام ويستغنون بإلهامها عن مشقة دراسة أمورهم وعناء تدبر شئونهم وعن الإبصار بقلوب صافية بعيدًا عن الانفعال والضجيج.
بعد عام وبضعة أشهر من الثورة شهدت فيها مصر جولات من الحراك والتفاعل والتنافس السياسي الذي أعطى المصريين جرعة محفزة من منشطات الوعي والإدراك السياسي، أصبح المصريون أمام احتمال العودة إلى المربع صفر إذا سلموا أمورهم لمن يعيد نسخ نظام القهر والاستبداد والاستخفاف أو إلى المربع المائة قبل الصفر إذا وقعوا في ورطة صناعة الزعيم البطل المخلص الذي يحقق للأمة أحلامها.
ولا يظن أي مصري، أياً كان، أنه محصن بذكائه أو حكمته أو ثقافته ضد تغييب الوعي. فلن نكون أول الشعوب التي تسترد إرادتها ثم تفقدها ولن نكون آخرها لو حصل ذلك لا قدر الله. وربما كان الكاتب الراحل توفيق الحكيم أفضل من عبر عن حالة غياب الوعي بشكل يبين كيف -ودون أن نشعر- يمكن أن يغيب وعيي ووعيك ووعي من هم أحصف مني ومنك.
ألف توفيق الحكيم رواية في الثلاثينيات من أشهر رواياته اسمها «عودة الروح»، يقال أنها أحيت الضمير الوطني حينئذ، حتى أن البعض يعدها الشرارة التي أدت إلى ثورة يوليو 1952، ولو أن في ذلك بعض المبالغة، فلا شك أن حرب فلسطين ومعركة الفالوجا وغير ذلك من تطورات كانت أيضًا من عوامل التعبئة التي أدت إلى ثورة يوليو.
وبعد يوليو 1952 بفترة كتب توفيق الحكيم مسرحيته الشهيرة «السلطان الحائر» وغيرها التي عمد فيها إلى الرمزية لانتقاد بعض سياسات عبد الناصر. لكنه ظل على حماسه للثورة وعلى ولائه لجمال عبد الناصر. ولما أدركت عبد الناصر المنية، كتب الحكيم هذه الكلمات:
«اعذرني يا جمال. القلم يرتعش في يدي. ليس من عادتي الكتابة والألم يلجم العقل ويذهل الفكر. لن أستطيع الإطالة، لقد دخل الحزن كل بيت تفجعًا عليك. لأن كل بيت فيه قطعة منك. لأن كل فرد قد وضع من قلبه لبنة في صرح بنائك.»
ثم في عام 1972 يكتب توفيق الحكيم أعجب كتبه، ولا أعني ذلك من الناحية الأدبية، وهو كتابه «عودة الوعي» الذي أثار ضجة واسعة، والذي ينتقد فيه عبد الناصر بشدة ويلوم نفسه على أنه كان غائباً عن الوعي طيلة هذه السنوات. وكان لعنوان الكتاب دلالة على أنه بدأ واعيًا فعادت روحه ثم غاب وعيه فترة طويلة قبل أن يعد إليه ثانياً، تلك الفترة بين «عودة الروح» و «عودة الوعي» الذي كتب فيه الحكيم:
«العجيب أن شخصًا مثلي محسوب على البلد هو من أهل الفكر قد أدركته الثورة وهو في كهولته يمكن أن ينساق أيضا خلف الحماس العاطفي، ولا يخطر لي أن أفكر في حقيقة هذه الصورة التي كانت تصنع لنا، كانت الثقة فيما يبدو قد شلت التفكير سحرونا ببريق آمال كنا نتطلع إليها من زمن بعيد، وأسكرونا بخمرة مكاسب وأمجاد، فسكرنا حتى غاب عنا الوعي. أن يري ذلك ويسمعه وأن لا يتأثر كثيرًا بما رأي وسمع ويظل علي شعوره الطيب نحو عبد الناصر. أهو فقدان الوعي. أهي حالة غريبة من التخدير.»
والعاقل من يتعظ بغيره.
علاء زين الدين/12 أبريل 2012