تختلط التعريفات أحياناً بين الدولة المدنية والدولة العلمانية والنظام الديمقراطي. والدولة المدنية يمكن أن تكون ديمقراطية أو غير ديمقراطية، علمانية أو غير علمانية. ويعتمد ذلك على التعريف الذي يقصده القائل. لذا فعلى من يؤيد أو يعارض فكرة الدولة المدنية أن يبين المفهوم المقصود بهذا المصطلح. والاستعراض التالي لمصطلح الدولة المدنية لا يمثل دراسة مستفيضة وإنما نتاج مسح لاستخدامات هذا المصطلح المختلفة:
أصل المصطلح: أذكر في البداية أن مصطلح الدولة المدنية* ليس شائعاً في المراجع الغربية التي وجدتها. لكن من بين الإشارات القليلة لهذا المصطلح وجدت أن المعنى الراجح فيها هو: "دولة يحتكم فيها المواطن إلى سلطة قانونية معترف بها للحصول على حقوقه". وفي المقابل إذن فإن الدولة غير المدنية هي التي يسعى فيها المواطن للحصول على حقوقه بنفسه أو يحتمي فيها بسطوة القبيلة أو المليشيا أو الكنيسة أو مثل ذلك. ولا تبدو ثمة علاقة لهذا التعريف الأصلي بما يدور حوله جدال الدولة المدنية في بلادنا اليوم. ولو كان هذا هو المفهوم المقصود، لما اختلف عليه أحد، فالكل يتطلع إلى إقامة دولة القانون.
وقد وجدت مصدراً واحداً يعرف الدولة المدنية بأنها "كل أفراد المجتمع باستثناء أعضاء الهيئات العسكرية والدينية". ويبدو أن لفظ الدولة في هذا التعريف لا ينطبق على الدولة بمفهومها المعروف وإنما يسقط على أهالي دولة ما. وعلى ذلك فهذا المفهوم أيضاً يختلف عما يدور عليه الحوار في مصر.
العلاقة بالعلمانية: وقد اقتبست النخب السياسية في لبنان هذا المصطلح لترويج مشروع الدولة القوية والمواطنة في مقابل عزوة الطوائف والعشائر والمليشيات التي احتمى بها المواطن في ظروف انهيار الدولة اللبنانية. ولو أن هذه الحاجة لا ترتبط بطبيعة الدولة من حيث مرجعيتها الفكرية أو الدينية، إلا أن علمانية الدولة المدنية كان أمراً مقبولاً ضمناً لكافة الفئات تفرضه الحاجة لتجنب الصراع الطائفي حيث لا يوجد للمجتمع هوية دينية واحدة سائدة، فكانت علمانية الدولة هي الحل العملي الذي ارتضاه المجتمع هناك كأساس لتحقيق العيش المشترك. لذلك فالارتباط بين الدولة المدنية والعلمانية في لبنان ليس نابعاً من أصل مفهوم الدولة المدنية وإنما ناتج عن خصوصيات المجتمع اللبناني.
الحالة المصرية: اقتبس جانب من النخب المثقفة في مصر هذا المصطلح وطوعوه ليلائم خطاباً سياسياً يقدم فكرة الدولة العلمانية بصياغة لا تصادم الرأي العام، واشتد ترويج هذا المصطلح دون التصريح بفكرة العلمانية في كنف النظام السابق الذي كان يقوم بتقويض متدرج للمعالم الإسلامية للدولة، فاتفقت أهداف هذه النخب مع أهداف النظام في هذا الشق المحدد حتى مع التناقض بينها وبين النظام في مسائل أخرى هي محل إجماع مثل محاربة الفساد والتداول السلمي للسلطة وغير ذلك.
المرجعية الإسلامية: وتبنى بعض أصحاب الفكر الإسلامي كالإخوان المسلمين نفس المصطلح، ربما لاحتواء الجدل وإبطال مفعول هذه الوسيلة لتمرير فكرة الدولة العلمانية المبطنة. فقدم هؤلاء صيغة للدولة المدنية على أساس أن الدولة الإسلامية هي في الأصل دولة مدنية نظام الحكم فيها مدني بمعنى أنه غير عسكري وغير ثيوقراطي. ودعاة هذا المفهوم يحتجون بأن الإسلام لا يعرف الثيوقراطية** ولا الكهنوت الكنسي أو نظام الملالي الشيعي، والعلماء في الإسلام بشر غير معصومين. وكذلك من معالم هذه الدولة المدنية المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات. وذلك دون تحديد أو نفي مرجعية معينة لهذه الدولة، فكل مجتمع يختار المرجعية التي تناسبه ويعتمدها في نصوص الدستور التي يضعها لهذا الغرض. لذلك يمكن في ظل هذا المفهوم أن تكون الدولة مدنية إسلامية أو ذات مرجعية إسلامية لو ارتضى المواطنون بذلك وكرسوا له في دستور البلاد، وهو بالطبع ما يدعو إليه مؤيدو هذا التعريف من أصحاب التوجه الإسلامي، مما يضع التيار العلماني في موضع اختيار، فإما أن يقبل بالدولة المدنية الإسلامية أو ذات المرجعية الإسلامية، أو يدعو صراحة إلى مفهومه العلماني للدولة المدنية. فمن الصعب أن يطرح تيار سياسي مفهوماً واضحاً لمرجعية الدولة المدنية وتظل تيارات أخرى تطرح فكرة الدولة المدنية غير محددة المعالم.
_____
* Civil State
** (النظام الثيوقراطي توجد فيه سلطة دينية تمتلك تفويضاً إلهياً تخول بموجبه الملك أو الحاكم ليحكم باسم الإله ويصبح من يعارضه أو يعصيه مطروداً من رحمة الرب)