02 أكتوبر 2014

فقرة شعبوية دولية

un-speech

دعك من تحليل كلمة السيسي في الأمم المتحدة يوم الأربعاء الماضي وما حوته من إعادة ابتكار الماضي وخلط أوراقه بالحاضر وما احتوته من أخطاء نحوية وعثرات لفظية ولا حتى ما اشتملت عليه من أمارات الغلّ ومضامين التعصب أو ما كشفت عنه من رؤية منغلقة واهتمامات ضيقة، دعك من كل هذا فهناك ما هو أسوأ. فكم كانت سيئة تلك اللحظة الختامية التي وقف فيها من يمثل مصر على المنبر الأممي الأشهر وهو يجتهد فيخفق في حبس ابتسامة تشي بأنه قد أضمر شيئاً وبيت أمراً، ثم راح يهتف، أي والله في قاعة الجمعية العمومية للأمم المتحدة، ثلاث مرات يهتف "تحيا مصر"! وكأن اثني عشر ساعة في الطائرة، وسبع ساعات هي فرق التوقيت بين القاهرة ونيويورك لم تكن كلها كافية للانتقال به من المحدودية المحلية إلى أفق العالمية التي حلم بها منذ ٣٥ سنة، ولا كان اختلاف المشاهد من حوله وتنوع الوجوه وتعدد اللغات موحياً بالتحوّل من الخطاب الشعبي إلى الرسالة الأممية، وكأنه  لم يعِ حقيقة المكان وطبيعة المناسبة فجاء بأداء يليق بخيمة انتخابية يستثير الجماهير ويكتسب المشجعين.

لا ريب أن المرء يشعر في موقف كهذا بالإشفاق على رجال الدبلوماسية المصرية وأعضاء بعثتنا الدائمة في الأمم المتحدة مما يجلبه عليهم خطاب رئيسهم من حرج وما يخلفه من أثار، فهم الذين سيقع عليهم عبء تجاوز الحرج ومعالجة الأثار السلبية حين يعود هو إلى القاهرة ليستقبله الإعلاميون والمؤيدون ويهنئونه على تفوق الأداء ونجاح الرحلة. لكن الشفقة تنقلب عجباً حين تجد أن هؤلاء الدبلوماسيين والسياسيين أنفسهم كانوا يهتفون من القاعة رداً على هتاف رئيسهم من المنصة في مشهد غريب لم يخطر حتى ببال الغائب الحاضر صاحب الكتاب الأخضر، حتى أنك تكاد تتنفس الصعداء حين تنتهي الكلمة وينسدل الستار على المشهد قبل أن يتحول الهتاف إلى "مصر فوق الجميع"!

فهل السيسي هو الذي خرج عن النص وختم كلمته بهذا الأسلوب الغارق في المحلية، أم من كان وراء إخراج رئيس مصر بهذه الصورة الشعبوية وإظهار الدبلوماسيين المصريين أمام العالم في صورة هتيفة يهللون لرئيس السلطة التنفيذية ويصفقون له في الوقت الذي أسكت فيه التعجب أكثر الحاضرين في القاعة نصف الخاوية؟ هل كانت هذه الوصلة الركيكة من إخراج أحد معاوني الرئيس من ديناصورات عصر "أمجاد يا عرب أمجاد" وفصاحة بلا صراحة، أم كانت من إبداع بعض صبية السياسة الذين لم يفقهوا منها سوى الشعارات والمزايدات، أم أنها شأن من الشئون التي لا يجوز تناولها فضلاً عن مناقشتها لكونها معنوية؟

أياً من كان وراء هذه الفقرة التمثيلية المتهافتة، فإنها سُتلحِق هذه الخطبة بقائمة خطب الأمم المتحدة التي أساءت إلى المتحدث ودولته مثل خطاب المبعوث الهندي كريشنا مينون عام ١٩٥٧ الذي سجل رقماً قياسياً لم يحطمه أحد من بعده وهو ٨ ساعات كاملة، وكلمة نيكيتا خروتشوف عام ١٩٦٠ حين طرق المنصة بحذاءه ليُسكِت احتجاجات البعثة الفليبينية ضد "الاستعمار السوفيتي"، وهذيان القذافي عام ٢٠٠٩ الذي تحملته القاعة لمدة ساعة مزق خلالها ميثاق الأمم المتحدة وطرح اختراعه لحل القضية الفلسطينية بإنشاء دولة "إسراطين" الذي ضمّه كتابه الأبيض، وبالطبع لم ينتهِ عميد الرؤساء العرب وملك ملوك أفريقيا يومئذ من فقرته الترفيهية قبل أن يقذف بكتابه الأبيض هذا في وجه الحضور. أما الصفة المشتركة بين هذه الخطب كلها فتكمن في صفة المتحدث وطبيعة نظامه السياسي. فالمتحدث في هذه الخطب وأمثالها مما شهدته منصة الأمم المتحدة كان دائمًا حاكماً مطلقاً أو مبعوثاً من نظام شمولي مستبد، يتم في ظله تجريف الحياة السياسية ويُغيّب الوعي ويُجيش الرأي العام في اتجاه أحادي بواسطة إعلام موجّه ويُقصَى فيه المجتمع عن المشاركة السياسية الجادة وتُستبعد فيه محاسبة السلطة ومراقبتها. ولا تختلف مصر اليوم ونظامها بعد عام من الثورة المضادة عن مثل تلك النظم إلا في التفاصيل. تشابهت النظم فتشابه أداؤها.

ورغم ذلك فمما يُحسب للسيسي أنه عبر بصدق عن حُكمِه وعن مؤيديه وعن حقيقة توجهاته وطبيعة إدارته. فقد سمع  العالم ما يدل على نظام يرتكز على تكريس الخوف واستدعاء الفزاعات لنيل الاعتراف والأهلية، ويعمد إلى استنفار مشاعر التعصب والعداء باستدعاء التحريض والتفرقة لتصفية الحسابات وتثبيت الحكم؛ ثم يقوم بإهدار مكاسبه هذه نفسها بالكشف عن ضيق الصدر بالاختلاف وازدراء إرادة الآخرين حين حذر وزير خارجيته الرؤساء والحكومات من الانسحاب أثناء كلمة الرئيس وهددهم برد قوي إذا تجرأوا على ذلك. مما سيجعل أي مراقب يتساءل بلا ريب عن طبيعة هذا النظام الذي يحاول مصادرة حرية التعبير لدى رؤساء الدول الأخرى الذين لا يدينون له بشيء، كيف يمكن أن يحترم حقوق مواطنيه وإرادتهم وحريتهم في التعبير عن رأيهم وهم تحت سلطته وسطوته؟

هكذا أضاع الرئيس السيسي فرصته الأولى في وضع ملامح تميز شخصيته الدولية فظهر معبراً عن نفس نهج نظامه الشعبوي الأمني الذي سيطر على البلاد منذ يوليو ٢٠١٣ وأخفق في إرسال رسالة قيمية وحضارية تعبر عن ثقافة مصر والحضارة التي تمثلها ودورها ورسالتها بين الأمم. عجز عن الانطلاق خارج مضيق صراعات السلطة ومساعي المغالبة فجاءت كلمته كأنها نسخة دولية من خطاب التفويض.

    

* كلمة الرئيس السيسي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، سبتمبر ٢٠١٤

 

** كلمة الرئيس مرسي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، سبتمبر ٢٠١٢
   (جاءت الإشارة في مقدمة الكلمة تعليقاً على فيلم مسيء ظهر في أمريكا في نفس الوقت)