01 يونيو 2013

مساء النور...

emergency_light

الحمد الله. ذات مساءٍ اضطُر صاحبنا إلى القيام عن مكتبه، وأزيح ابنه عن حاسوبه، واحتجبت الكتب عن ابنته فتوقفت مرغمة عن المذاكرة، وحيل بين الأم وأعمالها، فجلس الجميع في عهدة مصباح كانت بطارياته مشحونة لمثل ذلك الوقت. ولما كان التلفاز قد أضرب عن العمل لنفس العلة التي جمعتهم، فما كان من بدٍ إلا أن يقضوا وقتهم يتسامرون، إلى أن اقترح الأب أن يذكر كل منهم آيات من القرآن وراءها قصة، فيتذاكروا القَصَص معاً، وأعجبتهم الفكرة.

تداعَوا كعادتهم فيمن يدلو بدلوه أولاً، وكانت أول من تّطّوَّعت أو لعلها تُطُوِّعت (بضم التاء وكسر الواو) ابنة صاحبنا فاسترجعت قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا وتوبة كعب بن مالك رضي الله عنه من آيات سورة التوبة. فراجعوا كيف أن كعب ابن مالك عاهد الله بعد توبته ألا يتحدث إلا صدقاً، وذلك لعلمه بأن الصدق هو الذي أنجاه، ولو كان اتبع نصيحة من أشاروا عليه بالكذب ليعذره النبي في تخلفه عنه صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة تبوك لحُسب مع المنافقين، لكن الله وفقه إلى الصدق والصبر عليه، فنزل قرآن من السماء إلى الأرض يبشر كعبًا رضي عنه بقبول توبته: ﴿لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم﴾ [التوبة:١١٧-١١٨].

ثم لم يفُت الأسرة الانتباه إلى الآية الثالثة في هذا السياق والتي لا تذكرنا بالعبرة من هذه الأنباء فحسب وإنما تضمنت أمراً صريحًا للمسلمين: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين﴾. وصدق الله تعالى إذ قال: ﴿واتقوا الله ويعلمكم الله﴾.

ومن سورة الشعراء تلت الأم آيات تعرض قبسات من سيرة نبي الله موسى عليه السلام وتكليفه بالذهاب إلى فرعون وما دار بينهما من جدال يكشف منطق الطغاة عبر القرون؛ فهم من أجل بطر الحق والاستعلاء في الأرض يفترون الكذب ويرمون الأنبياء والمصلحين بالباطل، فهذا فرعون يفتري على موسى: ﴿قَالَ للملأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾، وكدأب سائر الطغاة راح يلفق التهم زوراً وبهتانًا: ﴿يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾، فلما آمن له السحرة جعله كبيرهم فقال: ﴿إنه لكبيركم الذي علمكم السحر﴾، ويكتمل المشهد بالملأ وهم نُخَبٌ يحفون حول الفرعون في كل زمان ومكان، يجادلون عنه بالباطل ويؤزونه أزاً فلا يشورون عليه إلا بما يزيده في الغَيّ حتى لا يفقدون وجاهتهم ومكانتهم ومكاسبهم.

ومما لفت انتباه الأسرة في جدال موسى مع فرعون التصعيد المتدرج في ردود موسى إزاء عناد فرعون وإصراره على الاستخفاف والاستهزاء، وذلك في سياق الآيات من (٢٤) إلى (٢٨). فقد بدأ عليه السلام بحجة واضحة تثبت عظمة الله تعالى في غير انتقاص صريح لفرعون، وذلك حين سأله عن رب العلمين فأجاب: ﴿قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين﴾، فلما أشهَد فرعون الملأ حوله على استخفافه بالحق: ﴿قال لمن حوله ألا تستمعون﴾، جاء رد موسى يضع فرعون نفسه وحاشيته وأسلافهم تحت قدرة الله تعالى وسلطانه: ﴿قال ربكم ورب آبائكم الأولين﴾، وهنا تجاوز موسى الحدود في نظر فرعون فاتهمه في عقله، وهو من صنوف مكر الطغاة بالمصلحين الذي لم ينفكوا عنه إلى يومنا هذا: ﴿قال إن رسولكم الذي أُرسل إليكم لمجنون﴾، فكان في رد موسى بيانًا ومعياراً لتمييز العاقلين يخرج فرعون ومن اتبعه خارج هذه الدائرة: ﴿قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون﴾، فلم يتبق لفرعون إلا مسلك الطغاة كافة لمّا يُبهتون: ﴿قال لإن اتخذت إلهًا غيري لأجعلنك من المسجونين﴾.

ثم استحضرت الأسرة مشهد السحرة ويقينهم لما عرفوا الحق فأسلموا لِلّه تعالى وأمسوا شهداء؛ وتساءلوا إن كان غيظ فرعون من توبة السحرة وإيمانهم برب موسى وهارون أعظم، أم كان غيظه من موسى ودعوته وحجته أشد، وقد عجل بعقاب السحرة وبصلبِهِم على نحوٍ لم يفعله مع موسى عليه السلام. فهل هذا دأب الطغاة دائمًا، أنهم قد يصبرون قليلاً على غرمائهم من باب الدهاء والسياسة، لكنهم لا يطيقون توبة أعوانهم ورجوعهم إلى الحق؟

وبعد، فهذا ما أدلت به الابنة والأم، فهل سيأتي دور الابن وماذا ستكون مساهمة الأب؟

___

علاء زين الدين، مايو ٢٠١٣