26 أكتوبر 2010

تأملات في النُدرة والبقاء (2) الفراشة والعثة

ما أكثر فراشات العُثة، هي في كل مكان مبثوثة وكل حينٍ موجودة. لا هو أنيقٌ رسمُها ولاهي زاهيةٌ ألوانُها. هي إن تراوحَت فبين صفراء شاحبة إلى بُنيةٍ قاتمة، وإن تمَيزَت بشيءٍ فبأنها عادية شائعة. كَمْ إذن يكثر انتشارُها عثة بوجنجدون ما تستدعي منا انتباها. وإلا فمتى ناديت على طفلك أن احضَر سريعاً لقد رأيت واحدة .. أو متى رفعت صغيرتك على ساعدك لتريها عُثة في الركن قابعة؟ ومتى تركت ما تفعله من أجل إحداها .. اللهم إلا لتطاردها خارج غرفة نومك ليلاً، أو لتعاود هَشَّها وقد ضِقتَ بعِشقِها لشاشة تلفازك ذَرعاً.

لكن كيف تراك لو أن التي حطت بالشاشة كانت فراشة مَلَكية جذابة برسمها المنمق وألوانها الخلابة؟ ألا تراك تومئ إلى أهلك أن ”ششش! اتركيها“، وتشير لابنتك هامساً: ”على التلفاز هناك .. أرأيتيها؟“ وتلتف الأسرة بلُطفٍ ورقَّة تراقب الزائرة البديعة وقد جاءت بيتك بنفحة من جمال الطبيعة. وإذ أنت في ذلك لا تعبأ ببرنامج كنت تتابعه إن فات ولا تنشغل بطرق الباب، يفيضُ فضولُ طفلك الصغير ويداهمكم بلهفة، فتبادره: ”مَهلك مَهلا .. خرجت فراشتُك من الشرفة“.

وقد تظل الفراشة بعدها نُدرةً تروونها إذا جاء الضيوف، وربما طُرفةً تداعب بها يوماً أحفاداً حولك يتسامرون: ”أتدري يا ولدُ أن أباك، هو الذي أخرج الفراشة من الشباك“. ولست أرى مكاناً بين نوادر تلك الأسرة، لقصةٍ واحدةٍ من نصيب العُثة!

فراشات ملكيةما هو إذن سر إعجابنا بالفراشة وإعراضنا عن العثة كما يعبر عنه هذا السرد المفترض؟ الجمال والرشاقة والأناقة هي بالطبع الأسباب. وكذلك فلا تُحسَب الكَثرة ولا الشيوع في صالح العُثث التي نراها في اليوم مراراً فلا تعلق بالخيال ولا تصير مادة سَمَر أو صورة في الأذهان.

أما الفراشات الجميلة، فإنها نادرة لا تدخل في العادة منازلنا ولا تنجذب في الظلام إلى المصابيح في بيوتنا، فالفراشة من كائنات الهواء الطلق ونور النهار، تطوف تحت ضياء الشمس من زهرة إلى زهرة تطلب رحيقها. حتى أعمار الفراشات تقاس في الغالب بالأيام والأسابيع، فما الفراشة بحُسِنها إلا حلقة قصيرة من أطوار تبدأ بالبيض فاليرقات فالعذارى في الشرانق إلى أن تخرج فراشات ذات بهجة، فلا تلبث إلا قليلاً ترتشف الرحيق وتُزَوِّج الزهور وتتراقص في الفضاء متغازلة، حتى إذا تزاوجت هي ووضعت بذرها مرة أو بِضعُ مرة أدت ما عليها وقضت نحبها.

وهكذا فإن كل جميل يعجبنا ويزين حياتنا ويحتل مكانة في خيالنا وأدبنا وفنوننا هو قليل عزيز يخرجنا عن المألوف ولو شيئاً قليلاً ويكسر رتابة المعتاد ولو قدراً يسيراً، وربما لو كان كثير العدد شائع التواجد لما كان له هذا التأثير ولما نال ما ينال من قيمة ومكانة وإعجاب.

لكن هل تراك تساءلت أين نحن البشر في هذا الميزان .. وهل نجرؤ على إسقاط هذا المقياس علينا بني الإنسان؟

للحديث بقية إن شاء الله ..

الفراشة - ويكيبديا، الموسوعة الحرة
العثة - ويكيبديا، الموسوع الحرة

17 أكتوبر 2010

تأملات في النُدرة والبقاء


الفراشة ذات الأجنحة الزجاجية
الحمد لله .. خلق الله الكائنات فجعلها أصنافًا شتى وطرائق قددا. منها الطيب والخبيث ومنها ما يعرج في السماء وما يعلو قمم الجبال ومنها ما يسكن الجحور والحفر أو يغوص في أغوار الكهوف وقيعان البحار. ومن الخلائق ما يمشي على بطنه وما يمشي على الرجلين أو الأربع ومن أصنافها ذوات الأربع والأربعين وذوات المائة وما فوق ذلك أو دونه. منها القوي والضعيف والكبير والصغير ومنها ما ينشط بالنهار وعشاق الظلام.

اختلفت أصناف الكائنات فتباينت ألوانها وتنوعت أوطانها وتعددت طباعها. لكن المتأمل في أحوال الخليقة إن أمعن وتدبر .. قد يجد سُنَّة عجيبة تسري على شتى المخلوقات لا تخطئ ولا تتبدل. سُنَّة تخضع لها الدواب والزواحف كما تجري على الطير والحيتان أو الحشرات والهوام كل في ذلك سواء.

فجرب أيها القارئ أن تذكر حيواناً يعجبك جماله، فهل ستذكر صنفًا من المخلوقات الشائعة أو هل ستجده من بين الكائنات التي تمر بك في كافة أوقات نهارك؟ أم أنك ربما  ستذكر صنفاً من الخيول العربية الأصيلة بخطوطها الرشيقة وعيونها الجميلة؟ ثم ابحث عن أحد هذه الخيول الجميلة، فهل ستجده في الطرقات إذا سرت أو في الأسواق إذا شئت؟   أما إن أعجبتك عصافير الجنة بألوانها الزاهية وريشها البديع وتغريدها الساحر .. فهل شاهدتها رفرافة بين أشجار الرصيف أم تراءى لك حسنها بأسطح العمائر؟

فلا شك أن كل جميل يعجبك نادر العدد وكل بديع يبهرك عزيز الطلب.

وللحديث بقية ..